فصل: تفسير الآيات رقم (158- 159)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البيضاوي المسمى بـ «أنوار التنزيل وأسرار التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 159‏]‏

‏{‏إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ‏(‏158‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الصفا والمروة‏}‏ هما علما جبلين بمكة‏.‏ ‏{‏مِن شَعَائِرِ الله‏}‏ من أعلام مناسكه، جمع شعيرة وهي العلامة ‏{‏فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر‏}‏ الحج لغة القصد، والاعتمار الزيارة‏.‏ فغلبا شرعاً على قصد البيت وزيارته على الوجهين المخصوصين‏.‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا‏}‏ كان إساف على الصفا ونائلة على المروة، وكان أهل الجاهلية إذا سعوا مسحوهما‏.‏ فلما جاء الإِسلام وكسرت الأصنام تحرج المسلمون أن يطوفوا بينهما لذلك فنزلت‏.‏ والإِجماع على أنه مشروع في الحج والعمرة، وإنما الخلاف في وجوبه‏.‏ فعن أحمد أنه سنة، وبه قال أنس وابن عباس رضي الله عنهم لقوله‏:‏ ‏{‏فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ‏}‏ فإنه يفهم منه التخيير وهو ضعيف، لأن نفي الجناح يدل على الجواز الداخل في معنى الوجوب، فلا يدفعه‏.‏ وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه واجب، يجبر بالدم‏.‏ وعن مالك والشافعي رحمهما الله أنه ركن لقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي»‏.‏ ‏{‏وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا‏}‏ أي فعل طاعة فرضاً كان أو نفلاً، أو زاد على ما فرض الله عليه من حج أو عمرة، أو طواف أو تطوع بالسعي إن قلنا إنه سنة‏.‏ و‏{‏خَيْرًا‏}‏ نصب على أنه صفة مصدر محذوف، أو بحذف الجار وإيصال الفعل إليه، أو بتعدية الفعل لتضمنه معنى أتى أو فعل‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب، وأصله يتطوع فأدغم مثل يطوف ‏{‏فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ‏}‏ مثيب على الطاعة لا تخفى عليه‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ‏}‏ كأحبار اليهود‏.‏ ‏{‏مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات‏}‏ كالآيات الشاهدة على أمر محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏والهدى‏}‏ وما يهدي إلى وجوب اتباعه والإِيمان به‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا بيناه لِلنَّاسِ‏}‏ لخصناه‏.‏ ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ في التوراة‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون‏}‏ أي الذين يتأتى منهم اللعن عليهم من الملائكة والثقلين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ‏}‏ عن الكتمان وسائر ما يجب أن يتاب عنه ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏ ما أفسدوا بالتدارك‏.‏ ‏{‏وَبَيَّنُواْ‏}‏ ما بينه الله في كتابهم لتتم توبتهم‏.‏ وقيل ما أحدثوه من التوبة ليمحوا به سمة الكفر عن أنفسهم ويقتدي بهم أضرابهم ‏{‏فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ‏}‏ بالقبول والمغفرة‏.‏ ‏{‏وَأَنَا التواب الرحيم‏}‏ المبالغ في قبول التوبة وإفاضة الرحمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 161‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏161‏)‏‏}‏

‏{‏إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ أي ومن لم يتب من الكاتمين حتى مات ‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملئكة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ استقر عليهم اللعن من الله، ومن يعتد بلعنه من خلقه‏.‏ وقيل؛ الأول لعنهم أحياء، وهذا لعنهم أمواتاً‏.‏ وقرئ و«الملائكةُ والناسُ أجمعون» عطفاً على محل اسم الله لأنه فاعل في المعنى، كقولك أعجبني ضرب زيدٍ وعمرو، أو فاعلاً لفعل مقدر نحو وتلعنهم الملائكة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏162- 162‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ أي في اللعنة، أو النار‏.‏ وإضمارها قبل الذكر تفخيماً لشأنها وتهويلاً، أو اكتفاء بدلالة اللعن عليه‏.‏ ‏{‏لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ أي لا يمهلون، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 163‏]‏

‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏(‏163‏)‏‏}‏

‏{‏وإلهكم إله واحد‏}‏ خطاب عام، أي المستحق منكم العبادة واحد لا شريك له يصح أن يعبد أو يسمى إلهاً‏.‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ تقرير للوحدانية، وإزاحة لأن يتوهم أن في الوجود إلهاً ولكن لا يستحق منهم العبادة‏.‏ ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ كالحجة عليها، فإنه لما كان مولى النعم كلها أصولها وفروعها وما سواه إما نعمة أو منعم عليه لم يستحق العبادة أحد غيره، وهما خبران آخران لقوله إلهكم، أو لمبتدأ محذوف‏.‏ قيل لما سمعه المشركون تعجبوا وقالوا‏:‏ إن كنت صادقاً فائت بآية نعرف بها صدقكك فنزلت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 164‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏164‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض‏}‏ إنما جمع السموات وأفرد الأرض، لأنها طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة بخلاف الأرضين‏.‏ ‏{‏واختلاف اليل والنهار‏}‏ تعاقبهما كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً‏}‏ ‏{‏والفلك التى تَجْرِى فِى البحر بِمَا يَنفَعُ الناس‏}‏ أي ينفعهم، أو بالذي ينفعهم، والقصد به إلى الاستدلال بالبحر وأحواله، وتخصيص ‏{‏الفلك‏}‏ بالذكر لأنه سبب الخوض فيه والاطلاع على عجائبه، ولذلك قدمه على ذكر المطر والسحاب، لأن منشأهما البحر في غالب الأمر، وتأنيث ‏{‏الفلك‏}‏ لأنه بمعنى السفينة‏.‏ وقرئ بضمتين على الأصل، أو الجمع وضمة الجمع غير ضمة الواحد عند المحققين‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلَ الله مِنَ السماء مِن مَّاءٍ‏}‏ من الأولى للإِبتداء، والثانية للبيان‏.‏ والسماء يحتمل الفلك والسحاب وجهة العلو‏.‏ ‏{‏فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ بالنبات ‏{‏وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ‏}‏ عطف على أنزل، كأنه استدل بنزول المطر وتكوين النبات به وبث الحيوانات في الأرض، أو على أحيا فإن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة‏.‏ والبث النشر والتفريق‏.‏ ‏{‏وَتَصْرِيفِ الرياح‏}‏ في مهابها وأحوالها، وقرأ حمزة والكسائي على الإِفراد‏.‏ ‏{‏والسحاب المسخر بَيْنَ السماء والأرض‏}‏ لا ينزل ولا ينقشع، مع أن الطبع يقتضي أحدهما حتى يأتي أمر الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ مسخر الرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله تعالى، واشتقاقه من السحب لأن بعضه يجر بعضاً‏.‏ ‏{‏لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ يتفكرون فيها وينظرون إليها بعيون عقولهم، وعنه صلى الله عليه وسلم «ويل لمن قرأ هذه الآية فمج بها» أي لم يتفكر فيها‏.‏

واعلم أن دلالة هذه الآيات على وجود الإله ووحدته من وجوه كثيرة يطول شرحها مفصلاً، والكلام المجمل أنها‏:‏ أمور ممكنة وجد كل منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة، وأنحاء مختلفة، إذ كان من الجائز مثلاً أن لا تتحرك السموات، أو بعضها كالأرض وأن تتحرك بعكس حركاتها، وبحيث تصير المنطقة دائرة مارة بالقطبين، وأن لا يكون لها أوج وحضيض أصلاً، وعلى هذا الوجه لبساطتها وتساوي أجزائها، فلا بد لها من موجد قادر حكيم، يوجدها على ما تستدعيه حكمته وتقتضيه مشيئته، متعالياً عن معارضة غيره‏.‏ إذ لو كان معه إله يقدر على ما يقدر عليه الآخر‏.‏ فإن توافقت إرادتهما‏:‏ فالفعل إن كان لهما، لزم اجتماع مؤثرين على أثر واحد، وإن كان لأحدهما، لزم ترجيح الفاعل بلا مرجح وجز الآخر المنافي لآلهيته‏.‏ وإن اختلفت‏:‏ لزم التمانع والتطارد، كما أشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ وفي الآية تنبيه على شرف علم الكلام وأهله، وحث على البحث والنظر فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 165‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا‏}‏ من الأصنام‏.‏ وقيل من الرؤساء الذين كانوا يطيعونهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا‏}‏ ولعل المراد أعم منهما وهو ما يشغله عن الله ‏{‏يُحِبُّونَهُمْ‏}‏ يعظمونهم ويطيعونهم ‏{‏كَحُبّ الله‏}‏ كتعظيمه والميل إلى طاعته، أي يسوون بينه وبينهم في المحبة والطاعة، والمحبة‏:‏ ميل القلب من الحب، استعير لحبة القلب، ثم اشتق منه الحب لأنه أصابها ورسخ فيها، ومحبة العبد لله تعالى إرادة طاعته والإِعتناء بتحصيل مراضيه، ومحبة الله للعبد إرادة إكرامه واستعماله في الطاعة، وصونه عن المعاصي‏.‏ ‏{‏والذين ءَامَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ‏}‏ لأنه لا تنقطع محبتهم لله تعالى، بخلاف محبة الأنداد فإنها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب، ولذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى الله تعالى عند الشدائد، ويعبدون الصنم زماناً ثم يرفضونه إلى غيره‏.‏

‏{‏وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ولو يعلم هؤلاء الذين ظلموا باتخاذ الأنداد ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ العذاب‏}‏ إِذ عاينوه يوم القيامة‏.‏ وأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحققه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أصحاب الجنة‏}‏ ‏{‏أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ ساد مسد مفعولي ‏{‏يرى‏}‏، وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف‏.‏ أي لو يعلمون أن القوة لله جميعاً إِذا عاينوا العذاب لندموا أشد الندم‏.‏ وقيل هو متعلق الجواب والمفعولان محذوفان، والتقدير‏:‏ ولو يرى الذين ظلموا أندادهم لا تنفع، لعلموا أن القوة لله كلها لا ينفع ولا يضر غيره‏.‏ وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب‏:‏ و«لو ترى» على أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي ولو ترى ذلك لرأيت أمراً عظيماً، وابن عامر‏:‏ ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ‏}‏ على البناء للمفعول، ويعقوب ‏{‏إنٍ‏}‏ بالكسر وكذا ‏{‏وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب‏}‏ على الاستئناف، أو إضمار القول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏166- 166‏]‏

‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ‏(‏166‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا‏}‏ بدل من ‏{‏إِذْ يَرَوْنَ‏}‏، أي إِذ تبرأ المتبوعون من الأتباع‏.‏ وقرئ بالعكس، أي تبرأ الأتباع من الرؤساء ‏{‏وَرَأَوُاْ العذاب‏}‏ أي رائين له، والواو للحال، وقد مضمرة‏.‏ وقيل؛ عطف على تبرأ ‏{‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب‏}‏ يحتمل العطف على تبرأ، أو رأوا والواو للحال، والأول أظهر‏.‏ و‏{‏الأسباب‏}‏‏:‏ الوصل التي كانت بينهم من الاتَّباع والاتفاق على الدين، والأغراض الداعية إلى ذلك‏.‏ وأصل السبب‏:‏ الحبل الذي يرتقي به الشجر‏.‏ وقرئ و‏{‏تقطعت‏}‏ على البناء للمفعول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 167‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ‏(‏167‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤوا مِنَّا‏}‏ ‏{‏لَوْ‏}‏ للتمني ولذلك أجيب بالفاء، أي ليت لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الآراء الفظيع‏.‏ ‏{‏يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات عَلَيْهِمْ‏}‏ نَدامات، وهي ثالث مفاعيل يرى أن كان من رؤية القلب وإِلاَّ فحال ‏{‏وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار‏}‏ أصله وما يخرجون، فعدل به إلى هذه العبارة، للمبالغة في الخلود والأقناط عن الخلاص والرجوع إلى الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 168‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏168‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض حلالا‏}‏ نزلت في قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس، وحلالاً مفعول كلوا، أو صفة مصدر محذوف، أو حال مما في الأرض ومن للتبعيض إِذ لا يؤكل كلٍ ما في الأرض ‏{‏طَيّباً‏}‏ يستطيبه الشرع، أو الشهوة المستقيمة‏.‏ إذ الحلال دل على الأول‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ لا تقتدوا به في اتباع الهوى فتحرموا الحلال وتحللوا الحرام‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والبزي وأبو بكر حيث وقع بتسكين الطاء وهما لغتان في جمع خطوة، وهي ما بين قدمي الخاطي‏.‏ وقرئ بضمتين وهمزة جعلت ضمة الطاء كأنها عليها، وبفتحتين على أنه جمع خطوة وهي المرة من الخطو ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، ولذلك سماه ولياً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت‏.‏‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏169- 169‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏169‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء‏}‏ بيان لعداوته، ووجوب التحرز عن متابعته‏.‏ واستعير الأمر لتزيينه وبعثه لهم على الشر تسفيهاً لرأيهم وتحقيراً لشأنهم، والسوء والفحشاء ما أنكره العقل واستقبحه الشرع، والعطف لاختلاف الوصفين فإنه سوء لاغتمام العاقل به، وفحشاء باستقباحه إياه‏.‏ وقيل‏:‏ السوء يعم القبائح، والفحشاء ما يتجاوز الحد في القبح من الكبائر‏.‏ وقيل‏:‏ الأول ما لا حد فيه، والثاني ما شرع فيه الحد ‏{‏وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ كاتخاذ الأنداد وتحليل المحرمات وتحريم الطيبات، وفيه دليل على المنع من اتباع الظن رأساً‏.‏ وأما اتباع المجتهد لما أدى إليه ظن مستند إلى مدرِك شرعي فوجوبه قطعي، والظن في طريقه كما بيناه في الكتب الأصولية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏170- 170‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏170‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله‏}‏ الضمير للناس، وعدل بالخطاب عنهم للنداء على ضلالهم، كأنه التفت إلى العقلاء وقال لهم‏:‏ انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون‏.‏ ‏{‏قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءنَا‏}‏ ما وجدناهم عليه نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله من الحجج والآيات، فجنحوا إلى التقليد‏.‏ وقيل في طائفة من اليهود دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِسلام، فقالوا‏:‏ بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا لأنهم كانوا خير منا وأعلم‏.‏ وعلى هذا فيعم ما أنزل الله التوراة لأنها أيضاً تدعو إلى الإسلام‏.‏ ‏{‏أَوَ لَّوْ كَانَ آباؤهُم لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ الواو للحال، أو العطف‏.‏ والهمزة للرد والتعجيب‏.‏ وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف أي لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكرون في أمر الدين، ولا يهتدون إلى الحق لاتبعوهم‏.‏ وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد‏.‏ وأما اتباع الغير في الدين إذا علم بدليل ما أنه محق كالأنبياء والمجتهدين في الأحكام، فهو في الحقيقة ليس بتقليده بل اتباع لما أنزل الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏171- 171‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏171‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء‏}‏ على حذف مضاف تقديره‏:‏ ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق، أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم الذي ينعق‏.‏ والمعنى أن الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم، ولا يتأملون فيما يقرر معهم، فهم في ذلك كالبهائم التي ينعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه، وتحس بالنداء ولا تفهم معناه‏.‏ وقيل هو تمثيلهم في اتباع آبائهم على ظاهر حالهم جاهلين بحقيقتها، بالبهائم التي تسمع الصوت ولا تفهم ما تحته‏.‏ أو تمثيلهم في دعائهم الأصنام، بالناعق في نعقه وهو التصويت على البهائم، وهذا يغني الإضمار ولكن لا يساعده قوله إلا دعاء ونداء، لأن الأصنام لا تسمع إلا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركب‏.‏

‏{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏ رفع على الذم‏.‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي بالفعل للإخلال بالنظر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 172‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏172‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم‏}‏ لما وسع الأمر على الناس كافة وأباح لهم ما في الأرض سوء ما حرم عليهم، أمر المؤمنين منهم أن يتحروا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال‏:‏ ‏{‏واشكروا للَّهِ‏}‏ على ما رزقكم وأحل لكم‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ إن صح أنكم تخصونه بالعبادة، وتقرون أنه مولى النعم، فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر‏.‏ فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإِتمامه، وهو عدم عند عدمه‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى إني والإِنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر غيري»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏173- 173‏]‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏173‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة‏}‏ أكلها، أو الانتفاع بها‏.‏ وهي التي ماتت من غير ذكاة‏.‏ والحديث ألحق بها ما أبِيْنَ من حي‏.‏ والسمك والجراد أخرجهما العرف عنها، أو استثناه الشرع‏.‏ والحرمة المضافة إلى العين تفيد عرفاً حرمة التصرف فيها مطلقاً إلا ما خصه الدليل، كالتصرف في المدبوغ‏.‏ ‏{‏والدم وَلَحْمَ الخنزير‏}‏ إِنما خص اللحم بالذكر، لأنه معظم ما يؤكل من الحيوان وسائر أجزائه كالتابع له‏.‏ ‏{‏وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله‏}‏ أي رفع به الصوت عند ذبحه للصنم‏.‏ والإِهلال أصله رؤية الهلال، يقال‏:‏ أهل الهلال وأهللته‏.‏ لكن لما جَرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رُئي سمي ذلك إهلالاً، ثم قيل لرفع الصوت وإن كان لغيره‏.‏ ‏{‏فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ‏}‏ بالاستيثار على مضطر آخر‏.‏ وقرأ عاصم وأبو عمرو حمزة بكسر النون‏.‏ ‏{‏وَلاَ عَادٍ‏}‏ سد الرمق، أو الجوعة‏.‏ وقيل‏:‏ غير باغ على الوالي، ولا عاد بقطع الطريق‏.‏ فعلى هذا لا يباح للعاصي بالسفر وهو ظاهر مذهب الشافعي وقول أحمد رحمهما الله تعالى‏.‏ ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ في تناوله‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ لما فعل ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بالرخصة فيه‏.‏ فإن قيل‏:‏ إنما تفيد قصر الحكم على ما ذكر وكم من حرام لم يذكر‏.‏ قلت‏:‏ المراد قصر الحرمة على ما ذكر مما استحلوه لا مطلقاً، أو قصر حرمته على حال الاختيار كأنه قيل إنما حرم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطروا إليها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 174‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏174‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيًلا‏}‏ عوضاً حقيراً‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار‏}‏ إما في الحال، لأنهم أكلوا ما يتلبس بالنار لكونها عقوبة عليه فكأنه أكل النار كقوله‏:‏

أَكَلْتُ دَماً إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضرة *** بَعِيدة مَهوى القِرطِ طيبة النَّشر

يعني الدية‏.‏ أو في المآل أي لا يأكلون يوم القيامة إلا النار‏.‏ ومعنى في بطونهم‏:‏ ملء بطونهم‏.‏ يقال أكل في بطنه وأكل في بعض بطنه كقوله‏:‏

كُلوا في بَعضِ بَطنِكَمو تُعفُوا *** ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة‏}‏ عبارة عن غضبه عليهم، وتعريض بحرمانهم حال مقابليهم في الكرامة والزلفى من الله‏.‏ ‏{‏وَلاَ يُزَكّيهِمْ‏}‏ لا يثني عليهم‏.‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ مؤلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 175‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ‏(‏175‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏والعذاب بالمغفرة‏}‏ في الآخرة، بكتمان الحق للمطامع والأغراض الدنيوية‏.‏ ‏{‏فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار‏}‏ تعجب من حالهم في الالتباس بموجبات النار من غيره مبالاة‏.‏ وما تامة مرفوعة بالابتداء، وتخصيصها كتخصيص قولهم‏.‏

شَرٌّ أَهَر *** ذَا نَابٍ

أو استفهامية وما بعدها الخبر، أو موصولة وما بعدها صلة والخبر محذوف‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏176- 177‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏176‏)‏ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏177‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق‏}‏ أي ذلك العذاب بسبب أن الله نزل الكتاب بالحق فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان‏.‏ ‏{‏وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب‏}‏ اللام فيه إما للجنس، واختلافهم إيمانهم ببعض كتب الله تعالى وكفرهم ببعض‏.‏ أو للعهد، والإِشارة إما إلى التوراة، واختلفوا بمعنى تخلفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها، أو خلفوا خلال ما أنزل الله تعالى مكانه، أي حرفوا ما فيها‏.‏ وإما إلى القرآن واختلافهم فيه قولهم سحر، وَتَقوَّلَ، وكلام علمه بشر، وأساطير الأولين‏.‏ ‏{‏لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ لفي خلاف بعيد عن الحق‏.‏

‏{‏لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب‏}‏ ‏{‏البر‏}‏‏:‏ كل فعل مرضٍ، والخطاب لأهل الكتاب فإنهم أكثروا الخوض في أمر القبلة حين حولت، وادعى كل طائفة أن البر هو التوجه إلى قبلته، فرد الله تعالى عليهم وقال‏:‏ ليس البر ما أنتم عليه فإنه منسوخ، ولكن البر ما بينه الله واتبعه المؤمنون‏.‏ وقيل عام لهم وللمسلمين، أي ليس البر مقصوراً بأمر القبلة، أو ليس البر العظيم الذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمرها، وقرأ حمزة وحفص ‏{‏البر‏}‏ بالنصب ‏{‏ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر والملئكة والكتاب والنبيين‏}‏ أي ولكن البر الذي ينبغي أن يهتم به بر من آمن بالله، أو لكن ذا البر من آمن، ويؤيده قراءة من قرأ ولكن «البار»‏.‏ والأول أوفق وأحسن‏.‏ والمراد بالكتاب الجنس، أو القرآن‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر ‏{‏ولكن‏}‏ بالتخفيف ورفع ‏{‏البر‏}‏‏.‏ ‏{‏وَآتَى المَالَ عَلى حُبِّهِ‏}‏ أي على حب المال، قال عليه الصلاة والسلام لما سئل أي الصدقة أفضل قال‏:‏ ‏"‏ أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش، وتخشى الفقر ‏"‏ وقيل الضمير لله، أو للمصدر‏.‏ والجار والمجرور في موضع الحال‏.‏ ‏{‏ذَوِي القربى واليتامى‏}‏ يريد المحاويج منهم، ولم يقيد لعدم الالتباس‏.‏ وقدم ذوي القربى لأن إيتاءهم أفضل كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ صدقتك على المسكين صدقة وعلى ذوي رحمك اثنتان، صدقة وصلة ‏"‏ ‏{‏والمساكين‏}‏ جمع المسكين وهو الذي أسكنته الخلة، وأصله دائم السكون كالمسكير للدائم السكر‏.‏ ‏{‏وابن السبيل‏}‏ المسافر، سمي به لملازمته السبيل كما سمي القاطع ابن الطريق‏.‏ وقيل الضيف لأن السبيل يرعف به‏.‏ ‏{‏والسائلين‏}‏ الذين ألجأتهم الحاجة إلى السؤال، وقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ للسائل حق وإن جاء على فرسه ‏"‏ ‏{‏وَفِي الرقاب‏}‏ وفي تخليصها بمعاونة المكاتبين، أو فك الأساري، أو ابتياع الرقاب لعتقها‏.‏ ‏{‏وأَقامَ الصَّلاةَ‏}‏ المفروضة‏.‏ ‏{‏وَآتَى الزَّكَاةَ‏}‏ يحتمل أن يكون المقصود منه ومن قوله‏:‏ ‏{‏وَآتَى المَالَ‏}‏ الزكاة المفروضة، ولكن الغرض من الأول ببيان مصارفها، ومن الثاني أداؤها والحث عليها‏.‏ ويحتمل أن يكون المراد بالأول نوافل الصدقات أو حقوقاً كانت في المال سوى الزكاة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 178‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى‏}‏ كان في الجاهلية بين حيين من أحياء العرب دماء، وكان لأحدهما طَول على الآخر، فأقسموا لنقتلن الحر منكم بالعبد والذكر بالأنثى‏.‏ فلما جاء الإِسلام تحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت، وأمرهم أن يتباوؤا‏.‏ ولا تدل على أن لا يقتل الحر بالعبد والذكر بالأنثى، كما لا تدل على عكسه، فإن المفهوم حيث لم يظهر للتخصيص غرض سوى اختصاص الحكم وقد بيّنا ما كان الغرض وإنما منع مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما قتل الحر بالعبد سواء كان عبده أو عبد غيره، لما روي عن علي رضي الله تعالى عنه «أن رجلاً قتل عبده فجلده الرسول صلى الله عليه وسلم ونفاه سنة ولم يقده به‏.‏» وروي عنه أنه قال‏:‏ من السنة أن لا يقتل مسلم بذي عهد ولا حر بعبد ولأن أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، كانا لا يقتلان الحر بالعبد بين أظهر الصحابة من غير نكير‏.‏ وللقياس على الأطراف، ومن سلم دلالته فليس له دعوى نسخه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏النفس بالنفس‏}‏ لأنه حكاية ما في التوراة فلا ينسخ ما في القرآن‏.‏ واحتجت الحنفية به على أن مقتضى العمد القود وحده، وهو ضعيف إذ الواجب على التخيير يصدق عليه أنه وجب وكتب، ولذلك قيل التخيير بين الواجب وغيره ليس نسخاً لوجوبه‏.‏ وقرئ ‏{‏كَتَبَ‏}‏ على البناء للفاعل والقِصَاصَ بالنصب، وكذلك كل فعل جاء في القرآن‏.‏ ‏{‏فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْء‏}‏ أي شيء من العفو، لأن عفا لازم‏.‏ وفائدته الإِشعار بأن بعض العفو كالعفو التام في إِسقاط القصاص‏.‏ وقيل عفا بمعنى ترك، وشيء مفعول به وهو ضعيف، إذ لم يثبت عفا الشيء بمعنى تركه بل أعفاه‏.‏ وعفا يعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب، قال الله تعالى ‏{‏عَفَا الله عَنكَ‏}‏ وقال ‏{‏عَفَا الله عَمَّا سَلَف‏}‏ فإذا عدي به إلى الذنب عدي إلى الجاني باللام وعليه ما في الآية كأنه قيل‏:‏ فمن عفي له عن جنايته من جهة، أخيه، يعني ولي الدم‏.‏ وذكره بلفظ الإِخوة الثابتة بينهما من الجنسية والإِسلام ليرق له ويعطف عليه‏.‏ ‏{‏فاتباع بالمعروف وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان‏}‏ أي فليكن اتباع، أو فالأمر اتباع‏.‏ والمراد به وصية العافي بأن يطلب الدية بالمعروف فلا يعنف، والمعفو عنه بأن يؤديها بالإِحسان‏:‏ وهو أن لا يمطل ولا يبخس‏.‏ وفيه دليل على أن الدية أحد مقتضى العمد، وإلا لما رتب الأمر بأدائها على مطلق العفو‏.‏ وللشافعي رضي الله تعالى عنه في المسألة قولان‏.‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الحكم المذكور في العفو والدية‏.‏ ‏{‏تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ لما فيه من التسهيل والنفع، قيل كتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى العفو مطلقاً‏.‏ وخيرت هذه الأمة بينهما وبين الدية تيسيراً عليهم وتقديراً للحكم على حسب مراتبهم‏.‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك‏}‏ أي قتل بعد العفو وأخذ الدية‏.‏ ‏{‏فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏ وقيل في الدنيا بأن يقتل لا محالة لقوله عليه السلام «لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏179- 179‏]‏

‏{‏وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَكُمْ فِي القصاص حياة‏}‏ كلام في غاية الفصاحة والبلاغة من حيث جعل الشيء محل ضده، وعرف القصاص ونكر الحياة، ليدل على أن في هذا الجنس من الحكم نوعاً من الحياة عظيماً، وذلك لأن العلم به يردع القاتل عن القتل، فيكون سبب حياة نفسين‏.‏ ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم‏.‏ فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون فيكون ذلك سبباً لحياتهم‏.‏ وعلى الأول فيه إضمار وعلى الثاني تخصيص‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بها الحياة الأخروية، فإن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ به في الآخرة‏.‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِي القصاص‏}‏ يحتمل أن يكونا خبرين لحياة وأن يكون أحدهما خبراً والآخر صلة له، أو حالاً من الضمير المستكن فيه‏.‏ وقرئ في «القصص» أي فيما قص عليكم من حكم القتل حياة، أو في القرآن حياة للقلوب‏.‏ ‏{‏يأُوْلِي الألباب‏}‏ ذوي العقول الكاملة‏.‏ ناداهم للتأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ في المحافظة على القصاص والحكم به والإِذعان له، أو عن القصاص فتكفوا عن القتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 180‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏180‏)‏‏}‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ أي حضرت أسبابه وظهرت أماراته‏.‏ ‏{‏إِن تَرَكَ خَيْرًا‏}‏ أي مالاً‏.‏ وقيل مالاً كثيراً، لما روي عن علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ أن مولى له أراد أن يوصي وله سبعمائة درهم، فمنعه وقال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَرَكَ خَيْرًا‏}‏ والخير هو المال الكثير‏.‏ وعن عائشة رضي الله تعالى عنها‏:‏ أن رجلاً أراد أن يوصي فسألته كم مالك، فقال‏:‏ ثلاثة آلاف فقالت‏:‏ كم عيالك قال‏:‏ أربعة قالت‏:‏ إنما قال الله تعالى ‏{‏إِن تَرَكَ خَيْرًا‏}‏ وأن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك‏.‏ ‏{‏الوصية للوالدين والأقربين‏}‏ مرفوع بكتب، وتذكير فعلها للفصل، أو على تأويل أن يوصي، أو الإِيصاء ولذلك ذكر الراجع في قوله‏:‏ ‏{‏فَمَن بَدَّلَهُ‏}‏‏.‏ والعامل في إذا مدلول كتب لا الوصية لتقدمه عليها‏.‏ وقيل مبتدأ خبره ‏{‏للوالدين‏}‏، والجملة جواب الشرط بإضمار الفاء كقوله‏:‏

مَنْ يَفْعَلِ الحَسَناتِ الله يشكُرَها *** وَالشَّرُّ بِالشَّرِ عِنْدَ الله مِثْلانِ

وَرُّدَّ بأنه إن صح فمن ضرورات الشعر‏.‏ وكان هذا الحكم في بدء الإسلام فنسخ بآية المواريث وبقوله عليه الصلاة والسلام «إن الله أعطى كل ذي حق حقه، ألا لا وصية لوارث»‏.‏ وفيه نظر‏:‏ لأن آية المواريث لا تعارضه بل تؤكده من حيث إنها تدل على تقديم الوصية مطلقاً، والحديث من الآحاد، وتلقي الأمة له بالقبول لا يلحقه بالمتواتر‏.‏ ولعله احترز عنه من فسر الوصية بما أوصى به الله من توريث الوالدين والأقربين بقوله ‏{‏يُوصِيكُمُ الله‏}‏‏.‏ أو بإيصاء المحتضر لهم بتوفير ما أوصى به الله عليهم ‏{‏بالمعروف‏}‏ بالعدل فلا يفضل الغنى، ولا يتجاوز الثلث‏.‏ ‏{‏حَقّا عَلَى المتقين‏}‏ مصدر مؤكد أي حق ذلك حقاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏181- 181‏]‏

‏{‏فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏181‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَن بَدَّلَهُ‏}‏ غيره من الأوصياء والشهود‏.‏ ‏{‏بَعْدمَا سَمِعَهُ‏}‏ أي وصل إليه وتحقق عنده، ‏{‏فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ‏}‏ فما إثم الإِيصاء المغير أو التبديل، إلا على مبدليه لأنهم الذين حافوا وخالفوا الشرع‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ وعيد للمبدل بغير حق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏182- 182‏]‏

‏{‏فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏182‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ‏}‏ أي توقع وعلم، من قولهم أخاف أن ترسل السماء‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر ‏{‏مُّوصٍ‏}‏ مشدداً‏.‏ ‏{‏جَنَفًا‏}‏ ميلاً بالخطأ في الوصية‏.‏ ‏{‏أَوْ إِثْماً‏}‏ تعمداً للحيف‏.‏ ‏{‏فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بين الموصى لهم بإجرائهم على نهج الشرع‏.‏ ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ في هذا التبديل، لأنه تبديل باطل إلى حق بخلاف الأول‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ وعد للمصلح، وذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإِثم وكون الفعل من جنس ما يؤثم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏183- 183‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ يعني الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام، وفيه توكيد للحكم وترغيب في الفعل وتطييب على النفس‏.‏ والصوم في اللغة‏:‏ الإِمساك عما تنازع إليه النفس، وفي الشرع‏:‏ الإِمساك عن المفطرات بياض النهار، فإنها معظم ما تشتهيه النفس‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ المعاصي فإن الصوم يكسر الشهوة التي هي مبدؤها كما قال عليه الصلاة والسلام «فعليه بالصوم فإن الصوم له وجاء» أو الإِخلال بأدائه لأصالته وقدمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏184- 184‏]‏

‏{‏أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏‏}‏

‏{‏أَيَّامًا معدودات‏}‏ مؤقتات بعدد معلوم، أو قلائل‏.‏ فإن القليل من المال يعد عدا والكثير يهال هيلاً، ونصبها ليس بالصيام لوقوع الفصل بينهما بل بإضمار صوموا لدلالة الصيام عليه، والمراد به رمضان أو ما وجب صومه قبل وجوبه ونسخ به، وهو عاشوراء أو ثلاثة أيام من كل شهر، أو بكما كتب على الظرفية، أو على أنه مفعول ثان ل ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ‏}‏ على السعة‏.‏ وقيل معناه صومكم كصومهم في عدد الأيام، لما روي‏:‏ أن رمضان كتب على النصارى، فوقع في برد أو حر شديد فحولوه إلى الربيع وزادوا عليه عشرين كفارة لتحويله‏.‏ وقيل زادوا ذلك لموتان أصابهم‏.‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ مرضاً يضره الصوم أو يعسر معه‏.‏ ‏{‏أَوْ على سَفَرٍ‏}‏ أو راكب سفر، وفيه إيماء إلى أن من سافر أثناء اليوم لم يفطر‏.‏ ‏{‏فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ أي فعليه صوم عدد أيام المرض، أو السفر من أيام أخر إن أفطر، فحذف الشرط والمضاف والمضاف إليه للعلم بها‏.‏ وقرئ بالنصب أي فليصم عدة، وهذا على سبيل الرخصة‏.‏ وقيل على الوجوب وإليه ذهب الظاهرية وبه قال أبو هريرة رضي الله عنه ‏{‏وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ‏}‏ وعلى المطيقين للصيام إن أفطروا‏.‏ ‏{‏فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ‏}‏ نصف صاع من بر أو صاع من غيره عند فقهاء العراق، ومد عند فقهاء الحجاز‏.‏ رخص لهم في ذلك أول الأمر لما أمروا بالصوم فاشتد عليهم لأنهم لم يتعودوه، ثم نسخ‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام وجمع «المساكين»‏.‏ وقرأ ابن عامر برواية هشام «مساكين» بغير إضافة الفدية إلى الطعام، والباقون بغير إضافة وتوحيد مسكين، وقرئ «يطوقونه» أي يكلفونه ويقلدونه في الطوق بمعنى الطاقة أو القلادة ويتطوقونه أي يتكلفونه، أو يتقلدونه ويطوقونه بالإِدغام، و«يطيقونه» و«يتطيقونه» على أن أصلهما يطوقونه من فيعل وتفيعل بمعنى يطوقونه ويتطوقونه، وعلى هذه القراءات يحتمل معنى ثانياً وهو الرخصة لمن يتعبه الصوم ويجهده وهم الشيوخ والعجائز في الإِفطار والفدية، فيكون ثابتاً وقد أول به القراءة المشهورة، أي يصومونه جهدهم وطاقتهم‏.‏ ‏{‏فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا‏}‏ فزاد في الفدية‏.‏ ‏{‏فَهُوَ‏}‏ فالتطوع أو الخير‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ‏}‏ أيها المطيقون، أو المطوقون وجهدتم طاقتكم‏.‏ أو المرخصون في الإِفطار ليندرج تحته المريض والمسافر‏.‏ ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من الفدية أو تطوع الخير أو منهما ومن التأخير للقضاء‏.‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ما في الصوم من الفضيلة وبراءة الذمة، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله أي اخترتموه‏.‏ وقيل معناه إن كنتم من أهل العلم والتدبر علمتم أن الصوم خير لكم من ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏185- 185‏]‏

‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏‏}‏

‏{‏شَهْرُ رَمَضَانَ‏}‏ مبتدأ خبره ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلكم شهر رمضان، أو بدل من الصيام على حذف المضاف أي كتب عليكم الصيام صيام شهر رمضان‏.‏ وقرئ بالنصب على إضمار صوموا، أو على أنه مفعول، ‏{‏وَأَن تَصُومُواْ‏}‏ وفيه ضعف، أو بدل من أيام معدودوات‏.‏ والشهر‏:‏ من الشهرة، ورمضان‏:‏ مصدر رمض إذا احترق؛ فأضيف إليه الشهر وجعل علماً ومنع من الصرف للعلمية والألف والنون، كما منع دأية في ابن دأية علماً للغراب للعلمية والتأنيث، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من صام رمضان» فعلى حذف المضاف لأمن الالتباس، وإنما سموه بذلك إما لارتماضهم فيه من حر الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه، أو لوقوعه أيام رمض الحر حين ما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة‏.‏ ‏{‏الذي أُنزِلَ فِيهِ القرآن‏}‏ أي ابتدئ فيه إنزاله، وكان ذلك ليلة القدر، أو أنزل فيه جملة إلى سماء الدنيا ثم نزل منجماً إلى الأرض، أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله‏:‏ ‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام‏}‏‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم «نزلت صحف إبراهيم عليه السلام أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين، والإِنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين» والموصول بصلته خبر المبتدأ أو صفته والخبر فمن شهد، والفاء لوصف المبتدأ بما تضمن معنى الشرط‏.‏ وفيه إشعار بأن الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصوم‏.‏ ‏{‏هُدًى لّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان‏}‏ حالان من القرآن، أن أنزل وهو هداية للناس بإعجازه وآيات واضحات مما يهدي إلى الحق، ويفرق بينه وبين الباطل بما فيه من الحكم والأحكام‏.‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ‏}‏ فمن حضر في الشهر ولم يكن مسافراً فليصم فيه، والأصل فمن شهد فيه فليصم فيه، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأول للتعظيم، ونصب على الظرف وحذف الجار ونصب الضمير الثاني على الاتساع‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ‏}‏ هلال الشهر فليصمه، على أنه مفعول به كقولك‏:‏ شهدت الجمعة أي صلاتها فيكون ‏{‏وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ مخصصاً له، لأن المسافر والمريض ممن شهد الشهر ولعل تكريره لذلك، أو لئلا يتوهم نسخه كما نسخ قرينه‏.‏ ‏{‏يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر‏}‏ أي يريد أن ييسر عليكم ولا يعسر، فلذلك أباح الفطر في السفر والمرض‏.‏ ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ علل لفعل محذوف دل عليه ما سبق، أي وشرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد يصوم الشهر والمرخص بالقضاء ومراعاة عدة ما أفطر فيه، والترخيص ‏{‏لتكملوا العدة‏}‏ إلى آخرها على سبيل اللف، فإن قوله ‏{‏وَلِتُكْمِلُواْ العدة‏}‏ علة الأمر بمراعاة العدة، ‏{‏وَلِتُكَبّرُواْ الله‏}‏ علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته، ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ علة الترخيص والتيسير‏.‏ أو الأفعال كل لفعله، أو معطوفة على علة مقدرة مثل ليسهل عليكم، أو لتعلموا ما تعلمون ولتكملوا العدة، ويجوز أن يعطف على اليسر أي ويريد بكم لتكملوا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله‏}‏ والمعنى بالتكبير تعظيم الله بالحمد والثناء عليه، ولذلك عدى بعلى‏.‏ وقيل تكبير يوم الفطر، وقيل التكبير عند الإهلال وما يحتمل المصدر، والخبر أي الذي هداكم إليه وعن عاصم برواية أبي بكر ‏{‏وَلِتُكْمِّلُواْ‏}‏ بالتشديد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏186- 187‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ‏}‏ أي فقل لهم إني قريب، وهو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد وأقوالهم واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم، روي‏:‏ أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فنزلت ‏{‏أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ‏}‏ تقرير للقرب‏.‏ ووعد للداعي بالإجابة‏.‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي‏}‏ إذا دعوتهم للإيمان والطاعة كما أجيبهم إذا دعوني لمهماتهم ‏{‏وَلْيُؤْمِنُواْ بِي‏}‏ أمر بالثبات والمداومة عليه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ‏}‏ راجين إصابة الرشد وهو إصابة الحق‏.‏ وقرئ بفتح الشين وكسرها‏.‏ واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه تعالى خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم تأكيداً له وحثاً عليه، ثم بين أحكام الصوم فقال‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ‏}‏ روي أن المسلمين كانوا إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء الآخرة أو يرقدوا، ثم‏:‏ إن عمر رضي الله عنه باشر بعد العشاء فندم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه، فقام رجال واعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزلت وليلة الصيام‏:‏ الليلة التي تصبح منها صائماً، والرفث‏:‏ كناية عن الجماع، لأنه لا يكاد يخلو من رفث وهو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، وعدي بإلى لتضمنه معنى الإفضاء، وإيثاره ههنا لتقبيح ما ارتكبوه ولذلك سماه خيانة‏.‏ وقرئ الرفوث ‏{‏هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ‏}‏ استئناف يبين سبب الإِحلال وهو قلة الصبر عنهن، وصعوبة اجتنابهن لكثرة المخالطة وشدة الملابسة، ولما كان الرجل والمرأة يعتنقان ويشتمل كل منهما على صاحبه شبه باللباس قال الجعدي‏:‏

إِذَا مَا الضجِيعُ ثَنَّى عِطْفَهَا *** تَثَنَّتْ فَكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

أو لأن كل واحد منهما يستر حال صاحبه ويمنعه من الفجور‏.‏ ‏{‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ‏}‏ تظلمونها بتعريضها للعقاب، وتنقيص حظها من الثواب، والاختيان أبلغ من الخيانة كالاكتساب من الكسب‏.‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ لما تبتم مما اقترفتموه‏.‏ ‏{‏وَعَفَا عَنكُمْ‏}‏ ومحا عنكم أثره‏.‏ ‏{‏فالن باشروهن‏}‏ لما نسخ عنكم التحريم وفيه دليل على جواز نسخ السنة بالقرآن، والمباشرة‏:‏ إلزاق البشرة بالبشرة كني به عن الجماع‏.‏ ‏{‏وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ‏}‏ واطلبوا ما قدره لكم وأثبته في اللوح المحفوظ من الولد، والمعنى أن المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد فإنه الحكمة من خلق الشهوة‏.‏ وشرع النكاح لاقضاء الوطر، وقيل النهي عن العزل، وقيل عن غير المأتي‏.‏ والتقدير وابتغوا المحل الذي كتب الله لكم‏.‏ ‏{‏وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر‏}‏ شبه أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق وما يمتد معه من غبش الليل، بخيطين أبيض وأسود، واكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله ‏{‏مِنَ الفجر‏}‏ عن بيان ‏{‏الخيط الأسود‏}‏، لدلالته عليه‏.‏

وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل‏.‏ ويجوز أن تكون من للتبعيض، فإن ما يبدو بعض الفجر‏.‏ وما روي أنها نزلت ولم ينزل من الفجر، فعمد رجال إلى خيطين أسود وأبيض ولا يزالون يأكلون ويشربون حتى يتبينا لهم فنزلت، إن صح فلعله كان قبل دخول رمضان وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائزة، أو أكتفي أولاً باشتهارهما في ذلك ثم صرح بالبيان لما التبس على بعضهم وفي تجويز المباشرة إلى الصبح الدلالة على جواز تأخير الغسل إليه وصحة صوم المصبح جنباً ‏{‏ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل‏}‏ بيان لآخر وقته، الليل عنه فينبفي صوم الوصال ‏{‏وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد‏}‏ معتكفون فيها والاعتكاف هي‏:‏ اللبث في المسجد بقصد القربة‏.‏ والمراد بالمباشرة‏:‏ الوطء‏.‏ وعن قتادة كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثم يرجع فنهوا عن ذلك‏.‏ وفي دليل على أن الاعتكاف يكون في المسجد ولا يختص بمسجد دون مسجد‏.‏ وأن الوطء يحرم فيه ويفسده لأن النهي في العبادات يوجب الفساد‏.‏ ‏{‏تِلْكَ حُدُودُ الله‏}‏ أي الأحكام التي ذكرت‏.‏ ‏{‏فَلاَ تَقْرَبُوهَا‏}‏ نهى أن يقرب الحد الحاجز بين الحق والباطل لئلا يداني الباطل، فضلاً عن أن يتخطى عنه‏.‏ كما قال عليه الصلاة والسلام «إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه»‏.‏ وهو أبلغ من قوله ‏{‏فَلاَ تَعْتَدُوهَا‏}‏ ويجوز أن يريد ب ‏{‏حُدُودَ الله‏}‏ محارمه ومناهيه‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك التبيين ‏{‏يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ مخالفة الأوامر والنواهي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏188- 188‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل‏}‏ أي ولا يأكل بعضكم مال بعض بالوجه الذي لم يبحه الله تعالى‏.‏ وبين نصب على الظرف، أو الحال من الأموال‏.‏ ‏{‏وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام‏}‏ عطف على المنهي، أو نصب بإضمار أن والإدلاء الإلقاء، أي ولا تلقوا حكومتها إلى الحكام‏.‏ ‏{‏لِتَأْكُلُواْ‏}‏ بالتحاكم‏.‏ ‏{‏فَرِيقاً‏}‏ طائفة‏.‏ ‏{‏مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم‏}‏ بما يوجب إثماً، كشهادة الزور واليمين الكاذبة، أو ملتبسين بالإثم‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنكم مبطلون، فإن ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح‏.‏ روي أن عبدان الحضرمي ادعى على امرئ القيس الكندي قطعة من أرض ولم يكن له بينة، فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلف امرؤ القيس، فهم به فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا‏}‏ الآية‏.‏ فارتدع عن اليمين، وسلم الأرض إلى عبدان، فنزلت‏.‏ وفيه دليل على أن حكم القاضي لا ينفذ باطناً، ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلي‏.‏ ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏189- 189‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة‏}‏ سأله معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم فقالا‏:‏ ‏(‏ما بال الهلال يبدو دقيقاً كالخيط، ثم يزيد حتى يستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا‏)‏ ‏{‏قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج‏}‏ فإنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال القمر وتبدل أمره، فأمره الله أن يجيب بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يؤقتون بها أمورهم، ومعالم للعبادات المؤقتة يعرف بها أوقاتها‏.‏ وخصوصاً الحج فإن الوقت مراعي فيه أداء وقضاء‏.‏ والمواقيت‏:‏ جمع ميقات، من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان‏:‏ أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها‏.‏ والزمان‏:‏ مدة مقسومة، والوقت‏:‏ الزمان المفروض لأمر‏.‏ ‏{‏وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا‏}‏ وقرأ أبو عمرو وورش وحفص بضم الباء، والباقون بالكسر‏.‏ ‏{‏ولكن البر مَنِ اتقى‏}‏ وقرأ نافع وابن عامر بتخفيف ‏{‏ولكن‏}‏، ورفع ‏{‏البر‏}‏‏.‏ كانت الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا داراً ولا فسطاطاً من بابه، وإنما يدخلون من نقب أو فرجة وراءه، ويعدون ذلك براً، فبين لهم أنه ليس ببر وإنما البر من اتقى المحارم والشهوات، ووجه اتصاله بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين‏.‏ أو أنه لما ذكر أنها مواقيت الحج وهذا أيضاً من أفعالهم في الحج ذكره للاستطراد، أو أنهم لما سألوا عمّا لا يعنيهم ولا يتعلق بعلم النبوة وتركوا السؤال عما يعنيهم ويختص بعلم النبوة، عقب بذكره جواب ما سألوه تنبيهاً على أن اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها، أو أن المراد به التنبيه على تعكيسهم في السؤال بتمثيل حالهم بحال من ترك باب البيت ودخل من ورائه‏.‏ والمعنى‏:‏ وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر بر من اتقى ذلك ولم يجسر على مثله‏.‏ ‏{‏وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها‏}‏ إذ ليس في العدول بر فباشروا الأمور من وجوهها‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في تغيير أحكامه والاعتراض على أفعاله‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ لكي تظفروا بالهدى والبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 190‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏190‏)‏‏}‏

‏{‏وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ جاهدوا لإعلاء كلمته وإعزاز دينه‏.‏ ‏{‏الذين يقاتلونكم‏}‏ قيل‏:‏ كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافة المقاتلين منهم والمحاجزين‏.‏ وقيل معناه الذين يناصبونكم القتال ويتوقع منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرهبان والنساء، أو الكفرة كلهم فإنهم بصدد قتال المسلمين وعلى قصده‏.‏ ويؤيد الأول ما روى‏:‏ أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة شرفها الله ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا يوفوا لهم ويقاتلوهم في الحرم‏.‏ أو الشهر الحرام وكرهوا ذلك فنزلت ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ بابتداء القتال، أو بقتال المعاهد، أو المفاجأة به من غير دعوة، أو المثلة، أو قتل من نهيتم عن قتله‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين‏}‏ لا يريد بهم الخير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏191- 191‏]‏

‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏191‏)‏‏}‏

‏{‏واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ حيث وجدتموهم في حل أو حرم‏.‏ وأصل الثقف‏:‏ الحذق في إدراك الشيء علماً كان أو عملاً‏.‏ فهو يتضمن معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال‏:‏

فأمَّا تَثْقِفُوني فَاقتُلُوني *** فَمَنْ أُثْقُفْ فَلَيْسَ إلى خُلُودِ

‏{‏وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ‏}‏ أي من مكة، وقد فعل ذلك بمن لم يسلم يوم الفتح‏.‏ ‏{‏والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل‏}‏ أي المحنة التي يفتتن بها الإنسان، كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها‏.‏ وقيل‏:‏ معناه شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه‏.‏ ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ‏}‏ أي لا تفاتحوهم بالقتال وهتك حرمة المسجد الحرام‏.‏ ‏{‏فَإِن قاتلوكم فاقتلوهم‏}‏ فلا تبالوا بقتالهم ثم فإنهم الذين هتكوا حرمته‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏وَلاَ تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فِيهِ فَإِن قاتلوكم‏}‏‏.‏ والمعنى حتى يقتلوا بعضكم كقولهم قتلنا بنو أسد‏.‏ ‏{‏كذلك جَزَاء الكافرين‏}‏ مثل ذلك جزاؤهم يفعل بهم مثل ما فعلوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏192- 193‏]‏

‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏192‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏193‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن القتال والكفر ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يغفر لهم ما قد سلف ‏{‏وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ شرك ‏{‏وَيَكُونَ الدين للَّهِ‏}‏ خالصاً له ليس للشيطان فيه نصيب‏.‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن الشرك‏.‏ ‏{‏فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين‏}‏ أي فلا تعتدوا على المنتهين إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم، فوضع العلة موضع الحكم‏.‏ وسمي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏ أو أنكم إن تعرضتم للمنتهين صرتم ظالمين وينعكس الأمر عليكم، والفاء الأولى للتعقيب والثانية للجزاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏194- 194‏]‏

‏{‏الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏194‏)‏‏}‏

‏{‏الشهر الحرام بالشهر الحرام‏}‏ قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة واتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه، وكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته فقيل لهم هذا الشهر بذاك وهتكه بهتكه فلا تبالوا به‏.‏ ‏{‏والحرمات قِصَاصٌ‏}‏ احتجاج عليه، أي كل حرمة وهو ما يجب أن يحافظ عليها يجري فيها القصاص‏.‏ فلما هتكوا حرمة شهركم بالصد فافعلوا بهم مثله، وادخلوا عليهم عنوة واقتلوهم إن قاتلوكم‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏ وهو فذلكة التقرير‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في الأنصار ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين‏}‏ فيحرسهم ويصلح شأنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏195- 199‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏195‏)‏ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏196‏)‏ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏197‏)‏ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏198‏)‏ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏199‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ ولا تمسكوا كل الإِمساك‏.‏ ‏{‏وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة‏}‏ بالإسراف وتضييع وجه المعاش، أو بالكف عن الغزو والإِنفاق فيه، فإن ذلك يقوي العدو ويسلطهم على إهلاكهم‏.‏ ويؤيده ما روي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لما أعز الله الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها فنزلت، أو بالإمساك وحب المال فإنه يؤدي إلى الهلاك المؤبد، ولذلك سمي البخل هلاكاً وهو في الأصل انتهاء الشيء في الفساد، والإِلقاء‏:‏ طرح الشيء، وعدى بإلى لتضمن معنى الانتهاء، والباء مزيدة والمراد بالأيدي الأنفس، والتهلكة والهلاك والهلك واحد فهي مصدر كالتضرة والتسرة، أي لا توقعوا أنفسكم في الهلاك وقيل‏:‏ معناه لا تجعلوها آخذة بأيديكم، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها فحذف المفعول‏.‏ ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ أعمالكم وأخلاقكم، أو تفضلوا على المحاويج‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ ‏{‏وَأَتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لله‏}‏ أي ائتوا بهما تامين مستجمعي المناسك لوجه الله تعالى، وهو على هذا يدل على وجوبهما ويؤيده قراءة من قرأ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الحج والعمرة لِلَّهِ‏}‏، وما روى جابر رضي الله تعالى عنه «أنه قيل يا رسول الله العمرة واجبة مثل الحج، فقال‏:‏ ‏"‏ لا ولكن إن تعتمر خير لك ‏"‏ فمعارض بما روي «أن رجلاً قال لعمر رضي الله تعالى عنه، إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليَّ أهللت بهما جميعاً، فقال‏:‏ هديت لسنة نبيك» ولا يقال إنه فسر وجد أنهما مكتوبين بقوله أهللت بهما فجاز أن يكون الوجوب بسبب إهلاله بهما، لأنه رتب الإِهلال على الوجدان وذلك يدل على أنه سبب الإِهلال دون العكس‏.‏ وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، أو أن تفرد لكل منهما سفراً، أو أن تجرده لهما لا تشوبهما بغرض دنيوي، أو أن تكون النفقة حلالاً‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ‏}‏ منعتم، يقال حصره العدو وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي، مثل صده وأصده، والمراد حصر العدو عند مالك والشافعي رحمهما الله تعالى لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ ولنزوله في الحديبية، ولقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ لا حصر إلا حصر العدو وكل منع من عدو أو مرض أو غيرهما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى، لما روي عنه عليه الصلاة والسلام ‏"‏ من كسر أو عرج فقد حل فعليه الحج من قابل ‏"‏ وهو ضعيف مؤول بما إذا شرط الإِحلال به لقوله عليه الصلاة والسلام لضباعة بنت الزبير ‏"‏ حجي واشترطي وقولي‏:‏ اللهم محلي حيث حبستني ‏"‏ ‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدي‏}‏ فعليكم ما استيسر، أو فالواجب ما استيسر‏.‏ أو فاهدوا ما استيسر‏.‏ والمعنى إن أحصر المحرم وأراد أن يتحلل تحلل بذبح هدي تيسر عليه، من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصر عند الأكثر‏.‏

لأنه عليه الصلاة والسلام ذبح عام الحديبية بها وهي من الحل، وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى يبعث به، ويجعل للمبعوث على يده يوم أمار فإذا جاء اليوم وظن أنه ذبح تحلل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ‏}‏ أي لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن ينحر فيه، وحمل الأولون بلوغ الهدي محله على ذبحه حيث يحل الذبح فيه حلاً كان أو حرماً، واقتصاره على الهدي دليل على عدم القضاء‏.‏ وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يجب القضاء، والمحل بالكسر يطلق على المكان والزمان‏.‏ والهدي‏:‏ جمع هدية كجدي وجدية، وقرئ ‏{‏مِنَ الهدىي‏}‏ جمع هدية كمطى في مطية ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا‏}‏ مرضاً يحوجه إلى الحلق‏.‏ ‏{‏أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ‏}‏ كجراحة وقمل‏.‏ ‏{‏فَفِدْيَةٌ‏}‏ فعلية فدية إن حلق‏.‏ ‏{‏مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏}‏ بيان لجنس الفدية، وأما قدرها فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لكعب بن عجرة «لعلك آذاك هَوَامُكَ، قال‏:‏ نعم يا رسول الله قال‏:‏ احلق وصم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق على ستة مساكين أو انسك شاة» والفرق ثلاثة آصع ‏{‏فَإِذَا أَمِنتُمْ‏}‏ الإِحصار‏.‏ أو كنتم في حال سعة وأمن‏.‏ ‏{‏فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج‏}‏ فَمن استمتع وانتفع بالتقرب إلى الله بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره‏.‏ وقيل‏:‏ فمن استمتع بعد التحلل من عمرته باستباحة محظورات الإِحرام إلى أن يحرم بالحج‏.‏ ‏{‏فَمَا استيسر مِنَ الهدي‏}‏ فعليه دم استيسره بسبب التمتع، فهو دم جبر أن يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه‏.‏ وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى، إنه دم نسك فهو كالأضحية ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ أي الهَدي‏.‏ ‏{‏فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج‏}‏ في أيام الاشتغال به بعد الإِحرام وقبل التحلل‏.‏ قال أبو حنيفة رحمه الله في أشهره بين الإحرامين، والأَحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه‏.‏ ولا يجوز صوم يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثرين‏.‏ ‏{‏وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ‏}‏ إلى أهليكم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه، أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو قوله الثاني ومذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏.‏ وقرئ ‏{‏سَبْعَة‏}‏ بالنصب عطفاً على محل ‏{‏ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏‏.‏ ‏{‏تِلْكَ عَشَرَةً‏}‏ فذلكة الحساب، وفائدتها أن لا يتوهم متوهم أن الواو بمعنى أو، كقولك جالس الحسن وابن سيرين‏.‏ وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب، وأن المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما ‏{‏كَامِلَةٌ‏}‏ صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد، أو مبينة كمال العشرة فإنه أول عدد كامل إذ به تنتهي الآحاد وتتم مراتبها، أو مقيدة تقيد كمال بدليتها من الهدي‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الحكم المذكور عندنا‏.‏ والتمتع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنه لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده، فمن فعل ذلك أي التمتع منهم فعليه دم جناية‏.‏ ‏{‏لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام‏}‏ وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا، فإن من كان على أقل فهو مقيم في الحرم، أو في حكمه‏.‏ ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحل عند طاوس وغير المكي عند مالك‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في المحافظة على أوامره ونواهيه وخصوصاً في الحج ‏{‏واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ لمن لم يتقه كي يصدكم للعلم به عن العصيان‏.‏ ‏{‏الحج أَشْهُرٌ‏}‏ أي وقته‏.‏ كقولك البرد شهران‏.‏ ‏{‏معلومات‏}‏ معروفات وهي‏:‏ شوال وذو القعدة وتسعة من ذي الحجة بليلة النحر عندنا، والعشر عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى‏.‏ وذي الحجة كله عند مالك‏.‏ وبناء على الخلاف على أن المراد بوقته وقت إحرامه، أو وقت أعماله ومناسكه، أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقاً، فإن مالكاً كره العمرة في بقية ذي الحجة‏.‏ وأبو حنيفة رحمه الله وإن صح الإِحرام به قبل شوال فقد استكرهه‏.‏ وإنما سمي شهران وبعض شهر أشهراً إقامة للبعض مقام الكل، أو إطلاقاً للجمع على ما فوق الواحد‏.‏ ‏{‏فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج‏}‏ فمن أوجبه على نفسه بالإحرام فيهن عندنا، أو بالتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وهو دليل على ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى وأن من أحرم بالحج لزمه الإِتمام‏.‏ ‏{‏فَلاَ رَفَثَ‏}‏ فلا جماع، أو فلا فحش من الكلام‏.‏ ‏{‏وَلاَ فُسُوقَ‏}‏ ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات وارتكاب المحظورات‏.‏ ‏{‏وَلاَ جِدَالَ‏}‏ ولا مراء مع الخدم والرفقة‏.‏ ‏{‏فِي الحج‏}‏ في أيامه، نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة وللدلالة على أنها حقيقة بأن لا تكون، وما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحج أقبح كلبسة الحرير في الصلاة‏.‏ والتطريب بقراءة القرآن لأنه خروج عن مقتضى الطبع والعادة إلى محض العبادة‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والأولين بالرفع على معنى‏:‏ لا يكونن رفث ولا فسوق‏.‏ والثالث بالفتح على معنى إلا خبار بانتفاء الخلاف في الحج، وذلك أن قريشاً كانت تحالف سائر العرب فتقف بالمشعر الحرام، فارتفع الخلاف بأن أمروا أن يقعوا أيضاً بعرفة‏.‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله‏}‏ حث على الخير عقب به النهي عن الشر ليستدل به ويستعمل مكانه‏.‏ ‏{‏وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى‏}‏ وتزودوا لمعادكم التقوى فإنه خير زاد، وقيل‏:‏ نزلت في أهل اليمن كانوا يحجون ولا يتزودون ويقولون‏:‏ نحن متوكلون فيكونون كلا على الناس، فأمروا أن يتزودوا ويتقوا الإِبرام في السؤال والتثقيل على الناس‏.‏

‏{‏واتقون يأُوْلِي الألباب‏}‏ فإن قضية اللب خشية الله وتقواه، حثهم على التقوى ثم أمرهم بأن يكون المقصود بها هو الله تعالى فيتبرأ من كل شيء سواه، وهو مقتضى العقل المعري عن شوائب الهوى فلذلك خص أولي الألباب بهذا الخطاب‏.‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ‏}‏ أي في أن تبتغوا أي تطلبوا‏.‏ ‏{‏فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ‏}‏ عطاء ورزقاً منه، يريد الربح بالتجارة، وقيل‏:‏ كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يقيمونها مواسم الحج، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت‏.‏ ‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات‏}‏ دفعتم منها بكثرة، من أفضت الماء إذا صببته بكثرة‏.‏ وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول كما حذف في دفعت من البصرة‏.‏ و‏{‏عرفات‏}‏ جمع سمي به كأذرعات، وإنما نون وكسر وفيه العلمية والتأنيث لأن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكين ولذلك يجمع مع اللام، وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف، وهنا ليس كذلك‏.‏ أو لأن التأنيث إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث‏.‏ وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، أو بتاء مقدرة كما في سعاد ولا يصح تقديرها لأن المذكورة تمنعه من حيث إنها كالبدل لها لاختصاصها بالمأنث كتاء بنت، وإنما سمي الموقف عرفة لأنه نعت لإِبراهيم عليه الصلاة والسلام، فلما أبصره عرفه أو لأن جبريل عليه السلام كان يدور به في المشاعر فلما أراه إياه قال قد عرفت، أو لأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا‏.‏ أو لأن الناس يتعارفون فيه‏.‏ وعرفات للمبالغة في ذلك وهي من الأسماء المرتجلة إلا أن يجعل جمع عارف، وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ‏}‏ أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب بل مستحب‏.‏ وعلى تقدير أنه واجب فهو واجب مقيد لا واجب مطلق حتى تجب مقدمته والأمر به غير مطلق‏.‏ ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ بالتلبية والتهليل والدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ بصلاة العشاءين‏.‏ ‏{‏عِندَ المشعر الحرام‏}‏ جبل يقف عليه الإمام ويسمى «قزح»‏.‏ وقيل‏:‏ ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر، ويؤيد الأول ما روي جابر‏:‏ أنه عليه الصلاة والسلام لما صلى الفجر يعني بالمزدلفة بغلس، ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل، ولم يزل واقفاً حتى أسفر وإنما سمي مشعراً لأنه معلم العبادة، ووصف بالحرام لحرمته‏:‏ ومعنى عند المشعر الحرام‏:‏ مما يليه ويقرب منه فإنه أفضل، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر‏.‏ ‏{‏واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ‏}‏ كما علمكم، أو اذكروه ذكراً حسناً كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها‏.‏ وما مصدرية أو كافة‏.‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ مّن قَبْلِهِ‏}‏ أي الهُدى‏.‏

‏{‏لَمِنَ الضالين‏}‏ أي الجاهلين بالإيمان والطاعة، وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة‏.‏ وقيل؛ إن نافية واللام بمعنى إلا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين‏}‏ ‏{‏ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس‏}‏ أي من عرفة لا من المزدلفة، والخطاب مع قريش كانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعاً عليهم، فأمروا بأن يساووهم‏.‏ وثم لتفاوت ما بين الإِفاضتين كما في قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم‏.‏ وقيل‏:‏ من المزدلفة إلى منى بعد الإِفاضة من عرفة إليها والخطاب عام‏.‏ وقرئ ‏{‏الناس‏}‏ بالكسر أي الناسي يريد آدم من قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فَنَسِيَ‏}‏ والمعنى أن الإِفاضة من عرفة شرع قديم فلا تغيروه‏.‏ ‏{‏واستغفروا الله‏}‏ من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحوه‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ يغفر ذنب المستغفر وينعم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏(‏200‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم‏}‏ فإذا قضيتم العبادات الحجية وفرغتم منها‏.‏ ‏{‏فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ‏}‏ فاكثروا ذكره وبالغوا فيه كما تفعلون بذكر آبائكم في المفاخرة‏.‏ وكانت العرب إذا قضوا مناسكهم وقفوا بمنى بين المسجد والجبل فيذكرون مفاخر آبائهم ومحاسن أيامهم‏.‏ ‏{‏أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا‏}‏ إما مجرور معطوف على الذكر يجعل الذكر ذاكراً على المجاز والمعنى‏:‏ فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ‏.‏ أو على ما أضيف إليه على ضعف بمعنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكراً‏.‏ وإما منصوب بالعطف على آباءكم وذكراً من فعل المذكور بمعنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم‏.‏ أم بمضمر دل عليه المعنى تقديره‏:‏ أو كونوا أشد ذكراً لله منكم آبائكم‏.‏ ‏{‏فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ‏}‏ تفصيل للذاكرين إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب به خير الدارين، والمراد الحث على الإكثار والإِرشاد إليه‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا ءاتِنَا فِي الدنيا‏}‏ اجعل إيتاءنا ومنحتنا في الدنيا ‏{‏وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خلاق‏}‏ أي نصيب وحظ لأن همه مقصور بالدنيا، أو من طلب خلاق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏201‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏‏}‏

‏{‏وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً‏}‏ يعني الصحة والكفاف وتوفيق الخير‏.‏ ‏{‏وَفِي الآخرة حَسَنَةً‏}‏ يعني الثواب والرحمة‏.‏ ‏{‏وَقِنَا عَذَابَ النار‏}‏ بالعفو والمغفرة، وقول علي رضي الله تعالى عنه‏:‏ الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، وفي الآخرة الحوراء‏.‏ وعذاب النار المرأة السوء وقول الحسن‏:‏ الحسنة في الدنيا العلم والعبادة، وفي الآخرة الجنة‏.‏ وقنا عذاب النار معناه احفظنا من الشهوات والذنوب والمؤدية إلى النار أمثلة للمراد بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏202‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الفريق الثاني‏.‏ وقيل إليهما‏.‏ ‏{‏لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ‏}‏ أي من جنسه وهو جزاؤه، أو من أجله كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ‏}‏ أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه فسمي الدعاء كسباً لأنه من الأعمال‏.‏ ‏{‏والله سَرِيعُ الحساب‏}‏ يحاسب العباد على كثرتهم وكثرة أعمالهم في مقدار لمحة، أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتسبوا الحسنات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏203‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

‏{‏واذكروا الله فِي أَيَّامٍ معدودات‏}‏ كبروه في أدبار الصلاة وعند ذبح القرابين ورمي الجمار وغيرها في أيام التشريق‏.‏ ‏{‏فَمَن تَعَجَّلَ‏}‏ فمن استعجل النفر‏.‏ ‏{‏فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ يوم القر والذي بعده، أي فمن نفر في ثاني أيام التشريق بعد رمي الجمار عندنا، وقبل طلوع الفجر عند أبي حنيفة‏.‏ ‏{‏فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ باستعجاله‏.‏ ‏{‏وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ‏}‏ ومن تأخر في النفر حتى رمى في اليوم الثالث بعد الزوال، وقال أبو حنيفة‏:‏ يجوز تقديم رميه على الزوال‏.‏ ومعنى نفي الإِثم بالتعجيل والتأخير التخيير بينهما والرد على أهل الجاهلية فإن منهم من أثم المتعجل ومنهم من أثم المتأخر‏.‏ ‏{‏لِمَنِ اتقى‏}‏ أي الذي ذكر من التخيير، أو من الأحكام لمن اتقى لأنه الحاج على الحقيقة والمنتفع به، أو لأجله حتى لا يتضرر بترك ما يهمه منهما‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في مجامع أموركم ليعبأ بكم‏.‏ ‏{‏واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ للجزاء بعد الإِحياء‏.‏ وأصل الحشر الجمع وضم المتفرق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏204‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ‏}‏ يروقك ويعظم في نفسك، والتعجب‏:‏ حيرة تعرض للإِنسان لجهله بسبب المتعجب منه‏.‏ ‏{‏في الحيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ متعلق بالقول، أي ما يقوله في أمور الدنيا وأسباب المعاش، أو في معنى الدنيا فإنها مراد من إدعاء المحبة وإظهار الإيمان، أو يعجبك أي يعجبك قوله في الدنيا حلاوة وفصاحة ولا يعجبك في الآخرة لما يعتريه من الدهشة والحبسة، أو لأنه لا يؤذن له في الكلام‏.‏ ‏{‏وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ‏}‏ يحلف ويستشهد الله على أن ما في قلبه موافق لكلامه‏.‏ ‏{‏وَهُوَ أَلَدُّ الخصام‏}‏ شديد العداوة والجدال للمسلمين، والخصام المخاصمة ويجوز أن يكون جمع خصم كصعب وصعاب بمعنى أشد الخصوم خصومة‏.‏ قيل نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي وكان حسن المنظر حلو المنطق يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعي الإِسلام‏.‏ وقيل في المنافقين كلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏205‏]‏

‏{‏وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تولى‏}‏ أدبر وانصرف عنك‏.‏ وقيل‏:‏ إذا غلب وصار والياً‏.‏ ‏{‏سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل‏}‏ كما فعله الأخنس بثقيف إذ بيتهم وأحرق زروعهم وأهلك مواشيهم، أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل والإِتلاف، أو بالظلم حتى يمنع الله بشؤمه القطر فيهلك الحرث والنسل‏.‏ ‏{‏والله لاَ يُحِبُّ الفساد‏}‏ لا يرتضيه فاحذروا غضبه عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏206‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم‏}‏ حملته الأنفة وحمية الجاهلية على الإِثم الذي يؤمر باتقانه لجاجاً، من قولك أخذته بكذا إذا حملته عليه وألزمته إياه‏.‏ ‏{‏فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ‏}‏ كفته جزاءً وعذاباً، و‏{‏جَهَنَّمَ‏}‏ علم لدار العقاب وهو في الأصل مرادف للنار‏.‏ وقيل معرب‏.‏ ‏{‏وَلَبِئْسَ المهاد‏}‏ جواب قسم مقدر والمخصوص بالذم محذوف للعلم به، والمهاد الفراش‏.‏ وقيل ما يوطأ للجنب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏207- 208‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ‏}‏ يبيعها أي يبذلها في الجهاد، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يُقتل ‏{‏ابتغاء مَرْضَاتَ الله‏}‏ طلباً لرضاه‏.‏ قيل‏:‏ إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي، أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال‏:‏ إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنتُ معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي فقبلوه منه وأتى المدينة‏.‏ ‏{‏والله رَءوفٌ بالعباد‏}‏ حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء وكلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء‏.‏ ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً‏}‏ ‏{‏السلم‏}‏ بالكسر والفتح الاستسلام والطاعة، ولذلك يطلق في الصلح والإِسلام‏.‏ فتحه ابن كثير ونافع والكسائي وكسره الباقون‏.‏ وكافة اسم للجملة لأنها تكف الأجزاء من التفرق حال من الضمير أو السلم لأنها تؤنث كالحرب قال‏:‏

السِّلْمُ تَأخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه *** وَالحَرْبُ يَكْفِيْكَ مِنْ أَنَفَاسِهَا جُرَعُ

والمعنى استسلموا لله وأطيعوه جملة ظاهراً وباطناً، والخطاب للمنافقين، أو ادخلوا في الإسلام بكليتكم ولا تخلطوا به غيره‏.‏ والخطاب لمؤمني أهل الكتاب، فإنهم بعد إسلامهم عظموا السبت وحرموا الإِبل وألبانها، أو في شرائع الله كلها بالإيمان بالأنبياء والكتب جميعاً والخطاب لأهل الكتاب، أو في شعب الإِسلام وأحكامه كلها فلا تخلوا بشيء والخطاب للمسلمين‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان‏}‏ بالتفرق والتفريق‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر العداوة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏209‏]‏

‏{‏فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن زَلَلْتُمْ‏}‏ عن الدخول في السلم‏.‏ ‏{‏مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات‏}‏ الآيات والحجج الشاهدة على أنه الحق‏.‏ ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ لا يعجزه الانتقام‏.‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا ينتقم إلا بحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏210‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ استفهام في معنى النفي ولذلك جاء بعده‏.‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله‏}‏ أي يأتيهم أمره أو بأسه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبّكَ‏}‏ ‏{‏فَجَاءهَا بَأْسُنَا‏}‏ أو يأتيهم الله ببأسه فحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ ‏{‏فِي ظُلَلٍ‏}‏ جمع ظلة كقلة وقلل وهي ما أظلك، وقرئ «ظلال» كقلال‏.‏ ‏{‏مّنَ الغمام‏}‏ السحاب الأبيض وإنما يأتيهم العذاب فيه لأنه مظنة الرحمة، فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير‏.‏ ‏{‏والملئكة‏}‏ فإنهم الواسطة في إتيان أمره، أو الآتون على الحقيقة ببأسه‏.‏ وقرئ بالجر عطفاً على ‏{‏ظُلَلٌ‏}‏ أو ‏{‏الغمام‏}‏‏.‏ ‏{‏وَقُضِيَ الأمر‏}‏ أتم أمر إهلاكهم وفرغ منه، وضع الماضي موضع المستقبل لدنوه وتيقن وقوعه‏.‏ وقرئ و«قضاء الأمر» عطفاً على الملائكة‏.‏ ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم على البناء للمفعول على أنه من الراجع، وقرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب على أنه من الرجوع، وقرئ أيضاً بالتذكير وبناء المفعول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏211‏]‏

‏{‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏‏}‏

‏{‏سَلْ بَنِي إسراءيل‏}‏ أمر للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد والمراد بهذا السؤال تقريعهم‏.‏ ‏{‏كَمْ آتيناهم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ‏}‏ معجزة ظاهرة، أو آية في الكتب شاهدة على الحق والصواب على أيدي الأنبياء، و‏{‏كَمْ‏}‏ خبرية أو استفهامية مقررة ومحلها النصب على المفعولية أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر إلى المبتدأ‏.‏ وآية مميزها‏.‏ ومن للفصل‏.‏ ‏{‏وَمَن يُبَدّلْ نِعْمَةَ الله‏}‏ أي آيات الله فإنها سبب الهدى الذي هو أجل النعم، يجعلها سبب الضلالة وازدياد الرجس، أو بالتحريف والتأويل الزائغ‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ‏}‏ من بعد ما وصلت إليه وتمكن من معرفتها، وفيه تعريض بأنهم بدلوها بعد ما عقلوها ولذلك قيل تقديره فبدلوها ‏{‏وَمَن يُبَدّلْ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ فيعاقبه أشد عقوبة لأنه ارتكب أشد جريمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏212‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏‏}‏

‏{‏زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا‏}‏ حسنت في أعينهم وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها وأعرضوا عن غيرها، والمزين في الحقيقة هو الله تعالى إذ ما من شيء إلا وهو فاعله، ويدل عليه قراءة ‏{‏زُيّنَ‏}‏ على البناء للفاعل، وكل من الشيطان والقوة الحيوانية وما خلقه الله فيها من الأمور البهية والأشياء الشهية مزين بالعرض‏.‏

‏{‏وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ يريد فقراء المؤمنين كبلال وعمار وصهيب، أي يسترذلونهم ويستهزئون بهم على رفضهم الدنيا وإقبالهم على العقبى، ومن للابتداء كأنهم جعلوا السخرية مبتدأة منهم ‏{‏والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة‏}‏ لأنهم في عليين وهم في أسفل السافلين، أو لأنهم في كرامة وهم في مذلة، أو لأنهم يتطاولون عليهم فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا، وإنما قال والذين اتقوا بعد قوله من الذين آمنوا، ليدل على أنهم متقون وأن استعلاءهم للتقوى‏.‏ ‏{‏والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء‏}‏ في الدارين‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ بغير تقدير فيوسع في الدنيا استدراجاً تارة وابتلاء أخرى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏213‏]‏

‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏213‏)‏‏}‏

‏{‏كَانَ الناس أُمَّةً واحدة‏}‏ متفقين على الحق فيما بين آدم وإدريس أو نوح أو بعد الطوفان، أو متفقين على الجهالة والكفر في فترة ادريس أو نوح‏.‏ ‏{‏فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ‏}‏ أي فاختلفوا فبعث الله، وإنما حذف لدلالة قوله فيما اختلفوا فيه‏.‏ وعن كعب ‏(‏الذي علمته من عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألفاً والمرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر والمذكور في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون‏)‏‏.‏ ‏{‏وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب‏}‏ يريد به الجنس ولا يريد به أنه أنزل مع كل واحد كتاباً يخصه، فإن أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصهم، وإنما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم‏.‏ ‏{‏بالحق‏}‏ حال من الكتاب، أي ملتبساً بالحق شاهداً به‏.‏ ‏{‏لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس‏}‏ أي الله، أو النبي المبعوث، أو كتابه‏.‏ ‏{‏فِيمَا اختلفوا فِيهِ‏}‏ في الحق الذي اختلفوا فيه، أو فيما التبس عليهم‏.‏ ‏{‏وَمَا اختلف فِيهِ‏}‏ في الحق، أو الكتاب‏.‏ ‏{‏إِلاَّ الذين أُوتُوهُ‏}‏ أي الكتاب المنزل لإزالة الخلاف أي عكسوا الأمر فجعلوا ما أنزل مزيحاً للاختلاف سبباً لاستحكامه‏.‏ ‏{‏مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ حسداً بينهم وظلماً لحرصهم على الدنيا‏.‏ ‏{‏فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ‏}‏ أي للحق الذي اختلف فيه من اختلف‏.‏ ‏{‏مِنَ الحق‏}‏ بيان لما اختلفوا فيه‏.‏ ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ بأمره أو بإرادته ولطفه‏.‏ ‏{‏والله يَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ لا يضل سالكه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏214‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ‏(‏214‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة‏}‏ خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بعد ما ذكر اختلاف الأمم على الأنبياء بعد مجيء الآيات، تشجيعاً لهم على الثبات مع مخالفتهم‏.‏ و‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإِنكار ‏{‏وَلَمَّا يَأْتِكُم‏}‏ ولم يأتكم، وأصل ‏{‏لمّا‏}‏ لم زيدت عليها ما وفيها توقع ولذلك جعلت مقابل قد‏.‏ ‏{‏مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم‏}‏ حالهم التي هي مثل في الشدة‏.‏ ‏{‏مَّسَّتْهُمُ البأساء والضراء‏}‏ بيان له على الاستئناف‏.‏ ‏{‏وَزُلْزِلُواْ‏}‏ وأزعجوا إزعاجاً شديداً بما أصابهم من الشدائد‏.‏ ‏{‏حتى يَقُولَ الرسول والذين ءَامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ لتناهي الشدة واستطالة المدة بحيث تقطعت حبال الصبر‏.‏ وقرأ نافع يقولُ بالرفع على أنه حكاية حال ماضية كقولك مرض حتى لا يرجونه‏.‏ ‏{‏متى نَصْرُ الله‏}‏ استبطاء له لتأخره‏.‏ ‏{‏أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ‏}‏ استئناف على إرادة القول أي فقيل لهم ذلك اسعافاً لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر، وفيه إشارة إلى أن الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات، ومكابدة الشدائد والرياضات كما قال عليه الصلاة والسلام «حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات»

تفسير الآيات رقم ‏[‏215- 217‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏215‏)‏ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏216‏)‏ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏217‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ‏}‏ عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏(‏أن عمرو بن الجموح الأنصاري كان شيخاً ذا مال عظيم، فقال يا رسول الله ماذا ننفق من أموالنا وأين نضعها فنزلت‏)‏ ‏{‏قُلْ مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ سئل عن المنفق فأجيب ببيان المصرف لأنه أهم فإن اعتداد النّفقة باعتباره، ولأنه كان في سؤال عمرو وإن لم يكن مذكوراً في الآية، واقتصر في بيان المنفق على ما تضمنه قوله ما أنفقتم من خير‏.‏ ‏{‏وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏ في معنى الشرط‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ جوابه أي إن تفعلوا خيراً فإن الله يعلم كنهه ويوفي ثوابه، وليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به‏.‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ‏}‏ شاق عليكم مكروه طبعاً، وهو مصدر نعت به للمبالغة، أو فعل بمعنى مفعول كالخبز‏.‏ وقرئ بالفتح على أنه لغة فيه كالضعف والضعف، أو بمعنى الإِكراه على المجاز كأنهم أكرهوا عليه لشدته وعظم مشقته كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً‏}‏ ‏{‏وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ وهو جميع ما كلفوا به، فإن الطبع يكرهه وهو مناط صلاحهم وسبب فلاحهم‏.‏ ‏{‏وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ‏}‏ وهو جميع ما نهوا عنه، فإن النفس تحبه وتهواه وهو يفضي بها إلى الردى، وإنما ذكر ‏{‏عَسَى‏}‏ لأن النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها‏.‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ‏}‏ ما هو خير لكم‏.‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك، وفيه دليل على أن الأحكام تتبع المصالح الراجحة وإن لم يعرف عينها ‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام‏}‏ روي ‏(‏أنه عليه الصلاة والسلام بعث عبد الله بن جحش ابن عمته على سرية في جمادى الآخرة قبل بدر بشهرين ليترصّد عيراً لقريش فيها عمرو بن عبد الله الخضرمي وثلاثة معه، فقتلوه وأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف، وكان ذلك غرة رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة، فقالت قريش‏:‏ استحل محمد الشهر الحرام شهراً يأمن فيه الخائف، وينذعر فيه الناس إلى معايشهم‏.‏ وشق ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا، ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسارى‏)‏‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنهما ‏(‏لما نزلت أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنيمة وهي أول غنيمة في الإسلام‏)‏ والسائلون هم المشركون كتبوا إليه في ذلك تشنيعاً وتعييراً وقيل أصحاب السرية‏.‏ ‏{‏قِتَال فِيهِ‏}‏ بدل اشتمال من الشهر الحرام‏.‏ وقرئ «عن قتال» بتكرير العامل‏.‏ ‏{‏قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ‏}‏ أي ذنب كبير، والأكثر أنه منسوخ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ‏}‏ خلافاً لعطاء وهو نسخ الخاص بالعام وفيه خلاف، والأولى منع دلالة الآية على حرمة القتال في الشهر الحرام مطلقاً فإن قتال فيه نكرة في حيز مثبت فلا يعم‏.‏

‏{‏وَصَدٌّ‏}‏ صرف ومنع‏.‏ ‏{‏عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي الإسلام، أو ما يوصل العبد إلى الله سبحانه وتعالى من الطاعات‏.‏ ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ أي بالله‏.‏ ‏{‏والمسجد الحرام‏}‏ على إرادة المضاف أي وصد المسجد الحرام كقول أبي دؤاد‏:‏

أَكْلَّ امرِئ تَحْسَبِينَ امرأ *** وَنَار توقدُ بِاللَّيْلِ نَارا

ولا يحسن عطفه على ‏{‏سَبِيلِ الله‏}‏ لأن عطف قوله‏:‏ ‏{‏وَكُفْرٌ بِهِ‏}‏ على ‏{‏وَصَدٌّ‏}‏ مانع منه إذ لا يتقدم العطف على الموصول على العطف على الصلة ولا على الهاء في ‏{‏بِهِ‏}‏، فإن العطف على الضمير المجرور إنما يكون بإعادة الجار‏.‏ ‏{‏وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ‏}‏ أهل المسجد الحرام وهم النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون‏.‏ ‏{‏أَكْبَرُ عِندَ الله‏}‏ مما فعلته السرية خطأ وبناء على الظن، وهو خبر عن الأشياء الأربعة المعدودة من كبائر قريش‏.‏ وأفعل مما يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث‏.‏ ‏{‏والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل‏}‏ أي ما ترتكبونه من الإخراج والشرك أفظع مما ارتكبوه من قتلى الحضرمي‏.‏ ‏{‏وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ‏}‏ إخبار عن دوام عداوة الكفار لهم وإنهم لا ينفكون عنها حتى يردوهم عن دينهم، وحتى للتعليل كقولك أعبد الله حتى أدخل الجنة‏.‏ ‏{‏إِنِ اسْتَطَاعُواْ‏}‏ وهو استبعاد لاستطاعتهم كقول الواثق بقوته‏:‏ على قرنه إن ظفرت بي فلا تبق علي، وإيذان بأنهم لا يردونهم‏.‏ ‏{‏وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ قيد الردة بالموت عليها في إحباط الأعمال كما هو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى، والمراد بها الأعمال النافعة‏.‏ وقرئ ‏{‏حَبَطَتْ‏}‏ بالفتح وهي لغة فيه‏.‏ ‏{‏فِى الدنيا‏}‏ لبطلان ما تخيلوه وفوات ما للإسلام من الفوائد الدنيوية‏.‏ ‏{‏والاخرة‏}‏ بسقوط الثواب‏.‏ ‏{‏وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ كسائر الكفرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏218‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏218‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ نزلت أيضاً في أصحاب السرية لما ظن بهم أنهم إن سلموا من الإِثم فليس لهم أجر‏.‏ ‏{‏والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله‏}‏ كرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء ‏{‏أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله‏}‏ ثوابه، أثبت لهم الرجاء إشعاراً بأن العمل غير موجب ولا قاطع في الدلالة سيما والعبرة بالخواتيم‏.‏ ‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ لما فعلوا خطأ وقلة احتياط‏.‏ ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بإِجزال الأجر والثواب‏.‏